الشعر صور حال نجد قبل التوحيد
الملك عبدالعزيز صاحب الفضل بعد الله على سكان الجزيرة العربية
إن لذلك البطل العبقري، الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لفضلاً كبيراً - بعد الله عز وجل - على كل سكان الجزيرة العربية، فقد وحد هذه الصحراء المترامية الأطراف، التي كانت تعيش الفقر والفرقة والتحارب والخوف، فبدلها الله عز وجل بالملك عبدالعزيز - رحمه الله - بفرقتها وحدة، وبخوفها أمناً، وبفقرها ثروة وغنى، وبضعفها منعة وعزة، بل ان للملك عبدالعزيز فضلاً كبيراً في التاريخ كله، وأمام العرب والمسلمين اجمعين، على ذلك التوحيد العظيم لجزيرة العرب وصحرائها الصعبة الشموس التي لا يستطيع تأليفها وتوحيدها إلا فارس مغوار حكيم نادر المثيل..
فالجزيرة هي مهد العروبة، ومهبط الوحي، وقبلة المسلمين، وبلاد الحرمين الشريفين، الحج إلى مكة المكرمة التي تُشرِّف الجزيرة بوجودها فيها، فرض على كل مسلم، لمن استطاع إليه سبيلاً، وفيها الحرم النبوي، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبور كبار الصحابة والشهداء، كما أن موقع الجزيرة يتوسط العالم تقريباً، فأمنه من أمن العالم، وتوحيدها وجعلها فعالة على المستوى العالمي مكسب للعالم كله.. ونجد هي مهد العرب، ورمز الشعر والحب على مرِّر العصور..
والخلاصة أن الحديث عن الفضل العظيم للملك عبدالعزيز - بعد الله عز وجل - في توحيد الجزيرة شمل العالم، أما فضله علينا سكان هذه البلاد فليس له حد يحده، ولا يمكن أن تفي المجلدات بالحديث عنه، فليس لنا إلا أن ندعو الله له أن يجزيه عنا خير الجزاء، هو - رحمه الله - وأجدادنا الذين جاهدوا معه لتوحيد هذا الكيان الكبير، وأن ندعو لابنائه الميامين مخلصين، فهم خير سلف لخير خلف، والحمد لله..
٭ ٭ ٭
وإذا عدنا إلى صحراء العرب قبل ذلك التوحيد العظيم، وجدنا العجب العجاب من حروب بين القبائل إلى فقر وجوع إلى قطَّاع طرق ناهيك عن الجهل الضارب بأطنابه، والتخلف الاجتماعي الذي يحار المرء إذا فكَّر فيه.. لقد عادت القبائل في قلب الجزيرة إلى سيرتها الأولى في الجاهلية يغير بعضها على بعض، وإذا اشتد القحط والجوع أغار ابن العم على ابن عمه كما قال الجاهلي:
وأحياناً على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وعلام يتقاتلون؟ وعلى من يغيرون ويقتلون الغالب مغلوب، وفرقتهم وغاراتهم على بعض مآس تدمى لها القلوب:
تُقتل من وتر أعز نفوسها
عليها، بأيد ما تكاد تطيعها
إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها
تذكَّرت القُربى ففاضت دموعها
وقول الشاعرة:
ظلَّت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تمزقُ
إذا انعدم الأمن فلا شيء يبقى: تقبل الفتن كقطع الليل المظلم، وتصبح الصحراء مخيفة مغبرة الأرجاء:
ومهمه مغبرةٍ أرجاؤه
كأن لون أرضه سماؤه
فالسماء تحتجب من خيمة الغبار الضاربة أطنابها على الصحراء كلها.. على أن الغبار المعنوي إذا حجب العقول والقلوب أشد وأنكى، وهو ما كان قبل توحيد المملكة: حيث الاحتراب لأتفه الأسباب.. وتدفع الغارات إلى تعميق الجراح والثأرات.. ويستمر نزيف الدماء والدموع وعويل النساء..
٭ ٭ ٭
كان الأقارب - قبل توحيد المملكة بقليل - قد يحتربون وقد يقتل بعضهم بعضاً، يقول الشريف بركات:
إلى نبحتنا من قريب كلابه
ودبَّت من البغضا علينا عقاربه
نحيناه بأكوار المطايا ويممت
بنا صوب حزم صارخات ثعالبه
بيوم من (الجوزا) يستاقد الحصا
وتلوذ باعضاد المطايا جخادبه
موت الفتى في جوف دو سملَّق
خلي من الأوناس قفر جوانبه
على الرجل أشوى من مقامه بديره
يعيش بها والغبن فيها مطالبه
فمن قلط الهندي ومن وخَّر العصا
جلا الهم واصبح نازح عن قرايبه
ومن وخّر الهندي ومن قلّط العصا
أمسى بذل راكب فوق غاربه
وترى ما يعيب الدوح إلا من أصله
ولا آفة الإنسان إلا قرايبه
وهذا غير صحيح فالأقرباء عز ومعزة وصلة ومحبة..
٭ ٭ ٭
إذن فقد كانت الحياة في جزيرة العرب قبل توحيدها مأساة من جميع جوانبها: في الحرب والسلم، في البادية والحضر، وخاصة الحياة في نجد، حيث لا نهر ولا بحر، ولا موارد ولا حياة، كان الفقر يطحن نجداً طحناً، ويطؤها بمنسمه، وينيخ عليها بكلكله، ويجثم عليها كله..
كانت نجد معزولة عن العالم
في صحرائها المخيفة، المجدبة معظم الدهر،
يتجاوب فيها عواء الرياح بعواء الذئاب الجائعات، وكانت القرى الصغيرة المسٌوَّرة بأسوار من الخوف، تتناثر على حواف هذه الصحراء تناثر المعزى في مرعى مقحط جديب، وقبايا أطلال تلك القرى الموجودة حتى الآن تصرخ شاهدة بما لقيت من فقر وجوع وخوف..
٭ ٭ ٭
لم يكن الفقر في نجد بالذات - قبل توحيد المملكة - شديداً فقط، بل كان مقيماً ما أقام عسيب، مخيفاً بمعنى الكلمة، وكان هناك مجاعات يموتُ فيها الناس، وزاد البل طينة انفلات الأمن آنذاك، وانتشار قطّاع الطرق يجوسون خلال الديار، ويقطعون الطرق بين تلك القرى الهزيلة الفقيرة، يشاركون الذئاب في الافتراس، كانوا ذئاباً بشرية مخيفة لا ترعى إلا ولاذمة، همهم السلب والنهب وافتراس من يمر بهم، حتى يتركوه عارياً في الصحراء، إن لم يقتلوه، كان اسمهم (الحنشل) وكانوا يدورون في الصحراء، وحول القرى، كأنهم خرق الموت، فإن وجدوا جَّمالاً سلبوه الجمل بما حمل، وضربوه وربما قتلوه وتركوه طعاماً للكواسر والوحوش، وإن كان راجلاً سلبوه كل شيء، حتى ثيابه الرثة، وتركوه في الصحراء، كما ولدته أمه، بعد أن يضربوه، وقد يقتلونه..
كان الفقر خيمة كبيرة مخيفة منصوبة على أرض نجد وعلى رؤوس أهلها، ومع الفقر والجوع، مرض وجهل، وعزلة موحشة عن العالم، فلم يكن العالم يشعر بهم، أو يرسل لهم أي مساعدات حتى في المجاعات الطاحنة التي مات فيها ألوف، والأوبئة الفتاكة التي أهلكت الكثير من أهل نجد، في ذلك الزمان، كان العالم يهملهم تماماً ويعتبرهم مجرد بدو متفرقين في صحراء لا يعيش فيها حتى الضب إلا بجهد، كان وضعهم أشد من أوضاع ساكني مجاهل افريقيا القصية، في تلك المجاهل - على الأقل - أمطار وغابات وحيوانات تصاد، أما نجد فغالب سنواتها الجفاف القاتل والقحط، حتى انهم ليفرحون بصيد ضب، أو جربوع، ويأكلون ما صادوا منها، والضب يبدو الآن شكله مخيفاً، والجربوع كالفأرة، ولكن الجوع كافر، والفقر قاتل، والقحط يضرب بأطنابه حتى تقشعر الأرض، وإن نزل قليل مطر استبشروا وفرحوا، ولكنه قلما يستمر حتى يخرج الزرع، حتى قال أحدهم (يا نجد يا ام الهول ما درت الحول) فلا يكاد ينزل مطر قليل يفرح به الجياع، ويخرج منه قليل نبات، حتى تمحل السماء وتضرب شمس الصحراء المحرقة ذلك النبات القليل فتحرقه وتجعله هشيماً تذروه الرياح..
٭٭٭
وحين عاد حميدان الشويعر المتوفى في حدود 1180ه من رحلته إلى الزبير وأطراف العراق، ورأى ما هناك من خصب، وأنهار، ودخل نجداً، أحس حقاً بفقر نجد، وجدبها اليابس العابس، ووجد الجوع مستوطناً هناك بارزاً أمامه يحادثه:
ظهرت من الحزم اللي به
سيد السادات من العشره
حطَّيت سنام باليمنى
وطيت الرقعي مع ظهره
ولقيت الجوع (أبوموسى)
باني له بيت بالحجره
عليه غتيرة (دسمال)
وبشيت منبقر ظهره
حاكاني وحاكيته
وعطاني علم له ثمره
ما يرخص عندي مضمونه
وأقول بعلمه وخبره
في البيت الأول جاء من الزبير حيث يوجد هناك قبر عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ثم ترك جبل (سنام) على يمينه قاصداً نجداً، ومرّ (بالرقعي) وهو الآن مركز معروف بين المملكة والكويت، ولم يكد يدخل نجداً حتى وجد الجوع مقيماً هناك، قد بنى له بيتاً ملكاً لن يبرح، ويشخص حميدان الجوع فيلبسه غتيرة قديمة وبشتاً ممزقاً ويأخذ في الحديث معه والاقتراب منه، وقد سمَّاه (أبوموسى) لأنه في يد (موس حاد) يحصد به الأرواح والعياذ بالله!