في تقسيم آفات الكبر واعلم : أن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات : الأولى : أن يكون الكبر مستقرا في قلب الأنسان منهم ، فهو يرى نفسه خيرا من غيره ، الا أنه يجتهد ويتواضع ، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسه ، الا أنه قد قطع أغصانها . الثانية : أن يظهر لك بأفعاله من الترفع في المجالس ، والتقدم على الأقران ، والأنكار على من يقصر في حقه ، فترى العالم يصعر خده للناس ، كأنه معرض عنهم ، والعابد يعيش ووجهه كأنه مستقذر لهم ، وهذان قد جهلا ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، حين قال: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين"(الشعراء :215) . الدرجة الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه ، كالدعاوى والمفاخر ، وتزكية النفس ، وحكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره ، وكذلك التكبر بالنسب ، فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وان كان أرفع منه عملا . قال ابن عباس : يقول الرجل للرجل : أنا أكرم منك ، وليس أحد أكرم من أحد الا بالتقوى . قال الله تعالى :"ان أكرمكم عند الله اتقاكم"الحجرات :13) . وكذلك التكبر بالمال ، والجمال ، والقوة ، وكثرة الأتباع ، ونحو ذلك ، فالكبر بالمال أكثر ما يجري بين الملوك والتجارونحوهم . والتكبر بالجمال أكثر ما يجري بين النساء ، ويدعوهن الى التنقص والغيبة وذكر العيوب . وأما التكبر بالأتباع والأنصار ، فيجري بين الملوك بالمكاثرة بكثرة الجنود ، وبين العلماء بالمكاثرة بالمستفيدين . وفي الجملة فكل ما يمكن أن يعتقد كمالا ، فان لم يكن في نفسه كمالا ، أمكن أن يتكبر به ، حتى ان الفاسق قد يفتخر بكثرة شرب الخمر والفجور ، لظنه أن ذلك كمال . واعلم : أن التكبر يظهر في شمائل الأنسان ، كصعر وجهه ، ونظره شزرا ، واطراق رأسه ، وجلوسه متربعا ومتكئا ، وفي اقواله ، حتى في صوته ونغمته ، وصيغة ايراده الكلام ، ويظهر ذلك أيضا في مشيته وتبختره ، وقيامه وقعوده وحركاته وسكناته وسائر تقلباته . ومن خصال المتكبر : أن يحب قيام الناس له . والقيام على ضربين : قيام على رأسه وهو قاعد ، فهذا منهي عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار " (جيد . أخرجه البخاري في الأدب المفرد). وهذه عادة الأعاجم . الثاني : قيام عند مجيء الأنسان ، فقد كان السلف لايكادون يفعلون ذلك . قال أنس : "لم يكن شخص أحب الينا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانوا اذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهته لذلك "(جيد . أخرجه الترمذي) . وقد قال العلماء : يستحب القيام للوالدين والأمام العادل ، وفضلاء الناس ، وقد صار هذا كالشعار بين الأفاضل ، فاذا تركه الأنسان في حق من يصلح أن يفعل في حقه ، لم يأمن أن ينسبه الى اهانته ، والتقصير في حقه ، فيوجب ذلك حقدا . واستحباب هذا في حق القائم لايمنع الذي يقام له أن يكره ذلك ، ويرى أنه ليس بأهل لذلك . ومن خصال المتكبر : أن لايمشي الا ومعه أحد يمشي خلفه . ومنها أن لايزور أحدا تكبرا على الناس . ومنها أن يستنكف من جلوس أحد الى جانبه أو مشيه معه . وقد روى أنس رضي الله عنه قال : "كانت الأمة من أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتنطلق به في حاجتها . وقال ابن وهب : جلست الى عبد العزيز بن أبي رواد ، وان فخذي لتلمس فخذه فنحيت نفسي عنه ، فأخذ ثيابي فجرني اليه وقال : لم تفعلون بي ما تفعلون بالجبابرة ، واني لا أعرف منكم شرا مني ؟ ! ومنها أن لايتعاطى بيده شغلا في بيته ، وهذا بخلاف ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . ومنها أن لايحمل متاعه من سوقه الى بيته ، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا وحمله . وكان أبوبكر رضي الله عنه يحمل الثياب الى السوق يتجر فيها . واشترى عمر رضي الله عنه لحما فعلقه بيده وحمله الى بيته . واشترى على رضي الله عنه تمرا فحمله في ملحفة ، فقال له قائل : أحمل عنك ؟ قال : لا ، أبوالعيال أحق أن يحمل . وأقبل أبوهريرة رضي الله عنه يوما من السوق وقد حمل حزمة حطب ، وهو يومئذ خليفة مروان ، فقال لرجل ، أوسع الطريق للأمير . ومن أراد أن ينفي الكبر ، ويستعمل التواضع ، فعليه بسيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد سبقت الأشارة اليها في كتاب " آداب المعيشة" . ( مختصر منهاج القاصدين ، المقدسي ) |